التخطي إلى المحتوى

– يُعَدُّ نموذج منافسة كورنو، في جوهره، إطاراً اقتصادياً تحليلياً يُلقي الضوء على سلوك الشركات، وكيفية تفاعلها ضمن أسواق لا يحتكرها عدد كبير من المنافسين، وهي البيئة المعروفة بـ “احتكار القلة”.

 

– في سياق هذا النموذج، تتخذ الشركات -التي تنتج سلعاً متماثلة أو متجانسة- قراراتها المتعلقة بكميات الإنتاج التي تنوي طرحها في السوق بشكل مستقل تمامًا، وبالتزامن مع قرارات منافسيها.

 

– ويُنسب هذا النموذج الرائد إلى عالِم الرياضيات والاقتصاد الفرنسي الشهير أوجستين كورنو، الذي وضع لبناته النظرية الأولى في القرن التاسع عشر الميلادي.

 

آلية عمل النموذج

 

 

– تندرج الأسواق التي يصفها نموذج كورنو تحت مظلة أسواق احتكار القلة، حيث تسعى الشركات جاهدةً إلى تعظيم أرباحها وتعزيز موقعها السوقي.

 

للاطلاع على المزيد من المواضيع والتقارير في صفحة مختارات أرقام

 

– ولتحقيق هذه الغاية، تُصبح كمية الإنتاج أداة استراتيجية رئيسية؛ إذ تفرض ديناميكيات العرض والطلب قواعد اللعبة: فزيادة الكمية المعروضة تُفضي إلى انخفاض الأسعار، في حين يؤدي شحّ المعروض إلى ارتفاعها.

 

– في هذا المشهد التنافسي الدقيق، تعتمد كل شركة في صياغة استراتيجيتها على توقعاتها الدقيقة وتحليلها العميق لقرارات منافسيها الآخرين؛ فهي تُدرك تماماً أن حجم إنتاجها الفردي سيؤثر تأثيراً مباشراً في السعر السوقي النهائي للمنتج ككل.

 

– بناءً على هذا الإدراك، تُجري الشركات حسابات معقدة لتحديد الكمية المثلى من الإنتاج التي تضمن لها تحقيق أقصى ربح ممكن، مستندةً في تقديراتها إلى رؤاها حول سلوك السوق المتوقع وهيكل التكاليف الخاص بعملياتها الإنتاجية.

 

الافتراضات الأساسية لنموذج كورنو

 

يقوم نموذج كورنو على مجموعة من الشروط والافتراضات الجوهرية التي تُشكل أساسه النظري، ومن أبرزها:

 

– تجانس المنتجات: يُفترض أن السلع التي تنتجها الشركات المتنافسة متطابقة تماماً من وجهة نظر المستهلك، أي لا توجد فروقات جوهرية، أو تفضيلات تميز منتج شركة عن أخرى.

 

– غياب التواطؤ: ينص النموذج على أن الشركات لا تتعاون أو تتفق سراً (لا تُشكّل كارتلاً) للتأثير بشكل مشترك على الأسعار أو كميات الإنتاج.

 

– تماثل المعلومات وتكاملها: من المفترض أن جميع الشركات تمتلك القدر نفسه من المعلومات الكاملة والمتماثلة حول منحنى الطلب الكلي في السوق وهياكل التكاليف الخاصة بكل شركة منافسة.

 

لمحة تاريخية عن النموذج

 

– ترجع الجذور التاريخية لنموذج كورنو إلى عام 1838، وهو العام الذي شهد نشر عالِم الرياضيات والاقتصاد الفرنسي أوجستين كورنو لمؤلَّفه الرائد “بحوث في المبادئ الرياضية لنظرية الثروة”.

 

– في هذا العمل المحوري، قدّم كورنو للمرة الأولى مفاهيم تحليلية مبتكرة تناولت ديناميكيات المنافسة وأشكال الاحتكار المختلفة.

 

– وقد استلهم كورنو بناء نموذجه الأساسي من ملاحظته الدقيقة للمنافسة المحتدمة بين شركتين كانتا تسيطران على سوق مياه الينابيع في عصره.

 

– وفي مرحلة لاحقة، اضطلع الاقتصادي السويسري البارز ليون والراس، أحد رواد الاقتصاد الرياضي الحديث، بدور محوري في تعزيز أفكار كورنو ونشرها على نطاق واسع، مما ساهم بشكل كبير في ترسيخها كإحدى الدعامات الأساسية للفكر الاقتصادي المعاصر.

 

مزايا نموذج كورنو

 

 

– يُشكل نموذج كورنو أداة تحليلية قيمة وفعالة لفهم سلوك الشركات ضمن أسواق احتكار القلة، ويستمد أهميته من عدة مزايا رئيسية، من أبرزها:

 

– واقعية النتائج: تتميز نتائج النموذج بكونها تقع في نقطة وسطى أكثر واقعية بين النتائج القصوى التي تُظهرها نماذج الاحتكار التام (حيث تكون كمية الإنتاج محدودة والأسعار بالغة الارتفاع) ونماذج المنافسة الكاملة (حيث تكون كمية الإنتاج وفيرة والأسعار منخفضة للغاية).

 

– الوصول إلى توازن ناش: يقود النموذج إلى تحقيق حالة توازن مستقرة تُعرف بـ “توازن ناش”، والتي لا تجد فيها أي شركة مصلحة فردية لتغيير استراتيجية إنتاجها، شريطة بقاء استراتيجيات الشركات المنافسة الأخرى على حالها ودون تغيير.

 

الانتقادات الموجهة للنموذج

 

على الرغم من أهمية نموذج كورنو النظرية وقيمته التحليلية العالية، فإنه لا يخلو من بعض القيود والانتقادات الجوهرية التي تُثار عند محاولة تطبيقه على أرض الواقع، ولعل من أبرزها ما يلي:

 

– فرضية استقلال القرارات المبالغ فيها: يفترض النموذج أن كل شركة تتخذ قرار حجم إنتاجها بمعزل تام عن التأثير المباشر لقرارات الشركات المنافسة، وهو افتراض غالباً ما يكون بعيداً عن الواقع العملي، خصوصاً في أسواق احتكار القلة التي تتسم بالتفاعل المكثف بين اللاعبين.

 

– إمكانية التواطؤ وعدم استقراره: رغم أن كورنو نفسه ألمح إلى احتمالية تواطؤ شركتين لتشكيل كيان احتكاري مشترك بهدف تعظيم الأرباح، فإن نظرية الألعاب الحديثة تُظهر بوضوح أن مثل هذه الكارتلات تكون عادةً هشة وغير مستقرة؛ فكل شركة تجد في الانحراف عن الاتفاق السري سعياً لتحقيق مكاسب فردية إضافية حافزاً أقوى من الالتزام بالاتفاق المشترك.

 

– إغفال التركيز على السعر: يوجه بعض الاقتصاديين البارزين، ومن أبرزهم جوزيف برتراند، انتقاداً لنموذج كورنو بسبب تركيزه الأساسي على كمية الإنتاج كمتغير تنافسي محوري، مفضلين عليه نموذجاً بديلاً يُركز على السعر. ويستند هذا الانتقاد إلى أن السعر في الواقع العملي غالباً ما يكون العامل الأكثر فورية وتأثيراً في تحديد ديناميكيات المنافسة بين الشركات.

 

– التجانس التام للمنتجات: يقوم النموذج على افتراض أن المنتجات متطابقة تماماً ودون أي فروق على الإطلاق، وهو افتراض نظري يصعب للغاية تحققه في الواقع العملي، حتى بالنسبة للسلع التي تبدو بسيطة كالمياه المعبأة.

 

مفاهيم اقتصادية ذات صلة

 

لفهم أعمق لنموذج كورنو وسياقه النظري والتطبيقي، من الضروري الإلمام بالمفاهيم الاقتصادية وثيقة الصلة به، وأبرزها:

 

– احتكار القلة: هو هيكل سوقي يتسم بسيطرة عدد قليل من الشركات الكبرى نسبياً، والتي تتمتع بقدرة ملحوظة على التأثير في مجريات السوق، بينما تلعب الشركات الأصغر حجماً، إن وُجدت، أدواراً محدودة أو هامشية.

 

– الاحتكار الثنائي: يُعد حالة خاصة ومبسطة من احتكار القلة، حيث يقتصر وجود المنافسين الفاعلين على شركتين اثنتين فقط في السوق المعني.

 

– توازن ناش: هو مفهوم أساسي في نظرية الألعاب يمثل حالة يصل إليها اللاعبون (الشركات في سياق نموذج كورنو) حيث يختار كل لاعب أفضل استراتيجية ممكنة له، بناءً على افتراض ثبات استراتيجيات اللاعبين الآخرين. وفي هذا التوازن، لا تجد أي شركة منفردة مصلحة في تغيير استراتيجيتها ما دامت استراتيجيات منافسيها الأخرى لم تتغير.

 

في الختام، يظل نموذج كورنو أحد النماذج الجوهرية والفاعلة في تحليل ديناميكيات المنافسة ضمن أسواق احتكار القلة.

 

– يقوم هذا النموذج على فهم كيفية اتخاذ الشركات لقرارات كميات الإنتاج بشكل مستقل، ولكن مع الأخذ في الاعتبار، وإن ضمنياً، ردود الأفعال المتوقعة من الشركات المنافسة.

 

– ومع ذلك، فإنه على غرار أي نموذج نظري، يواجه قيوداً عند تطبيقه العملي، لاسيما فيما يتعلق بافتراضات استقلال القرارات وإغفال التنافس المباشر على السعر، الأمر الذي دفع الاقتصاديين إلى تطوير نماذج مكملة أو بديلة، كنماذج تنافس السعر (نموذج برتراند)، لتقديم رؤى أكثر شمولية لديناميكيات السوق.

 

المصدر: إنفستوبيديا

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *