التخطي إلى المحتوى

– في خضم الأزمات الاقتصادية الكبرى، غالبًا ما تتجه أنظار الحكومات والبنوك المركزية نحو أدواتها التقليدية لإنعاش النمو؛ ألا وهي خفض أسعار الفائدة وزيادة المعروض النقدي.

 

– لكن ماذا يحدث عندما تفقد هذه الأدوات مفعولها؟ حينئذٍ، يدخل الاقتصاد في واحدة من أعقد المعضلات الاقتصادية المعاصرة: فخ السيولة.

 

ما المقصود بفخ السيولة؟

 

 

– يُقصد بفخ السيولة (Liquidity Trap) أي حالة اقتصادية استثنائية تفقد فيها السياسة النقدية قدرتها على تحفيز الاقتصاد، حتى مع وفرة السيولة المتاحة في السوق.

 

للاطلاع على المزيد من المواضيع والتقارير في صفحة مختارات أرقام

 

– ففي أوقات الركود أو التباطؤ الحاد، يميل الأفراد والشركات إلى الاحتفاظ بالنقد بدلاً من إنفاقه أو استثماره، مدفوعين بتراجع الثقة وتوقعات سلبية حول المستقبل.

 

– وهكذا، حتى مع خفض أسعار الفائدة إلى مستويات تقترب من الصفر، تظل الاستجابة الاقتصادية ضعيفة أو معدومة.

 

متى تحدث هذه الظاهرة؟

 

– تتجسد هذه الظاهرة في ثلاث حالات رئيسية:

 

1- اقتراب سعر الفائدة الاسمي من الصفر: مما يقلص هامش التحفيز النقديّ الفعال.

 

2- ركود أو كساد اقتصادي: يؤدي إلى تراجع الطلب الكليّ، وتدهور الثقة الاستثمارية.

 

3- فقدان فعّالية السياسة النقدية: حيث لا تؤثر زيادة المعروض النقدي في الإنفاق أو الإنتاج الحقيقي.

 

ماذا يحدث داخل فخ السيولة؟

 

– في هذا السياق المعقد، يصبح منحنى الطلب على النقود شديد المرونة؛ فحتى مع ضخ سيولة إضافية أو خفض أسعار الفائدة، يفضل الأفراد الاحتفاظ بالنقد بدافع الحذر.

 

– ومن ثمّ، يتراجع الاستثمار، وتضعف القدرة الشرائية، مما يدخل الاقتصاد في حلقة مفرغة من الانكماش والركود.

 

– وهنا، تزداد الأمور تعقيدًا عندما يؤدي الانكماش المستمر إلى ارتفاع أسعار الفائدة الحقيقية (الفائدة الاسمية مطروحًا منها التضخم السلبي)، وهو ما يضر بالمستهلكين والمستثمرين على حد سواء، ويزيد من أعباء الديون، ويقوض الثقة في النظام المالي ككل.

 

دروس من التاريخ: الكساد الكبير واليابان

 

– شهد العالم مثالين تاريخيين بارزين لفخ السيولة:

– الكساد الكبير (1929–1939): بلغ التضخم -6.7%، وانهارت الثقة المالية، واستمر الركود حتى اندلاع الحرب العالمية الثانية. وقد أرجع اقتصاديون مثل ميلتون فريدمان هذا الفشل إلى السياسة النقدية الانكماشية لبنك الاحتياطي الفيدرالي آنذاك.

 

– اليابان (1995–2005): عانت البلاد من عقد كامل من الانكماش رغم أسعار فائدة قريبة من الصفر. وقد بلغ معدل التضخم السنوي -0.2%، بينما عززت البنوك من سياسة انكماش الائتمان، ما عمق الأزمة بدلاً من حلها.

 

– في كلا المثالين، كانت الإخفاقات البنكية والمالية سببًا رئيسيًا في استمرار فخ السيولة، حيث أدى تراكم الديون وعدم سداد القروض إلى اضطراب النظام المصرفي، وعزوف البنوك عن الإقراض.

 

انكماش الائتمان: دوامة تعزز الفخ

 

– لجأت البنوك في هذه الأزمات إلى ما يعرف بـ “انكماش الائتمان”، أي تقليص القروض ومنع التوسع في التمويل.

 

– ورغم أن هذه الخطوة تهدف إلى تقليل المخاطر، فإنها تؤدي في الواقع إلى مزيد من التراجع في الإنتاج والاستثمار والتوظيف، مما يعمق فخ السيولة ويطيل أمد الأزمة.

 

كيف يمكن الخروج من الفخ؟

 

– في مواجهة عدم فاعلية السياسة النقدية التقليدية، توجهت الاقتصادات الكبرى إلى أدوات غير تقليدية، أبرزها:

 

1- التيسير الكمي: تقوم البنوك المركزية بشراء الأصول المالية (مثل السندات الحكومية) من البنوك التجارية، ما يرفع أسعارها ويخفض عوائدها، ويزيد من السيولة لدى المؤسسات المالية، وبالتالي يخلق مناخًا أكثر ملاءمة للإنفاق والاستثمار.

 

– في اليابان، اُستخدمت هذه الأداة منذ عام 1999 بعد تثبيت سعر الفائدة عند الصفر.

 

– في الولايات المتحدة، تبنى الفيدرالي هذه السياسة بعد الأزمة المالية العالمية، وساهمت في رفع سوق الأسهم بنسبة 140% بين عامي 1933 و1941، بحسب فريدمان.

 

2- السياسة المالية التوسعية: وفقًا للنظرية الكينزية، فإن زيادة الإنفاق الحكومي المباشر على البنية التحتية والمشروعات العامة قد تكون الحل الأمثل لفك عقدة السيولة.

 

وهذا ما قام به الرئيس فرانكلين روزفلت في “الصفقة الجديدة” عام 1933، حين أطلق برامج عامة ضخمة مثل هيئة وادي تينيسي.

 

– كذلك، أنفقت اليابان 100 تريليون ين خلال عقد من الزمن على مشروعات عامة لتجاوز الركود.

 

الاقتصادات الحديثة… هل هي أقرب إلى فخ السيولة اليوم؟

 

 

– في السنوات الأخيرة، أثارت أزمة كوفيد-19 -وما تبعها من أزمات تضخم عالمية وتباطؤ في النمو- تساؤلات حول ما إذا كانت الاقتصادات الكبرى، كالاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة واليابان، قد دخلت بالفعل في دوامة من “فخ السيولة الجديد”، ولكن بصيغة مختلفة.

 

– فبعد عقد من التحفيز النقدي المفرط، باتت أسعار الفائدة قريبة من الصفر، بل وسالبة أحيانًا في أوروبا واليابان، فيما استمر ضعف الاستجابة الاستثمارية في قطاعات الإنتاج الحقيقي.

 

– ورغم التحفيز الكبير، ظل الإنفاق الخاص محدودًا، وارتفعت معدلات الادخار الاحتياطي، لا سيّما مع ازدياد المخاطر الجيوسياسية، من الحرب التجارية بين الصين وأمريكا إلى الصراعات في أوكرانيا والشرق الأوسط.

الخلاصة: هل يمكن ترويض فخ السيولة؟

 

– يمثل فخ السيولة تحديًا جذريًا للفكر الاقتصادي الكلاسيكي؛ فعندما تفشل أدوات التحفيز التقليدية، تصبح الحاجة مُلّحة للابتكار في السياسات النقدية والمالية، وربما لإعادة التفكير في دور الدولة والقطاع الخاص في تحريك عجلة الاقتصاد.

 

– ولعلّ أهم درس في هذا السياق هو أن الثقة -سواء في المستقبل، أو في المؤسسات المالية، أو في قدرة الحكومات على إدارة الأزمات- تظل العامل الأهم في كسر دائرة الجمود، وإخراج الاقتصاد من قبضة السيولة المعطلة.

 

المصدر: كوربوريت فاينانس

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *