التخطي إلى المحتوى

استطاع البنك المركزي المصري خلال النصف الأول من عام 2025 أن يقود مسار الاقتصاد الوطني في واحدة من أصعب المراحل وأكثرها تحديا، واضعا أمامه هدفا رئيسيا يتمثل في استعادة الاستقرار النقدي، وخفض معدلات التضخم، وضبط سوق الصرف، مع الحفاظ في الوقت ذاته على النشاط الاقتصادي دون تعثر.

كيف أعاد البنك المركزي المصري التوازن للاقتصاد؟

وجاءت تحركات البنك المركزي في توقيت بالغ الحساسية، وسط ضغوط تضخمية داخلية، وتقلبات خارجية، وظروف إقليمية وسياسية واقتصادية ألقت بظلالها على الأسواق الناشئة، إلا أن المؤسسة النقدية المصرية أثبتت قدرة استثنائية على التعامل بكفاءة.

فعبر حزمة من السياسات الصارمة والدقيقة، تمكن البنك المركزي المصري من إعادة رسم المشهد النقدي والمالي بالكامل، وأثبت أن الانضباط، حين يكون مدعوما برؤية علمية ومتابعة دقيقة، هو مفتاح النجاة والاستقرار.

كيف أعاد البنك المركزي المصري التوازن للاقتصاد؟

البداية كانت بالتشديد الكامل

منذ بداية عام 2024، بدأ البنك المركزي المصري في تبني واحدة من أقوى سياسات التشديد النقدي، لمواجهة موجة تضخم غير مسبوقة تخطت حاجز الـ30%، ولم تكن الإجراءات مجرد رفع أسعار فائدة، بل كانت سياسة متكاملة تضمنت رفع أسعار الفائدة 600 نقطة أساس دفعة واحدة، مع تعديل جذري في آليات امتصاص السيولة.

ففي إبريل 2024، انتقل البنك المركزي إلى تطبيق آلية “قبول جميع العطاءات” في عطاءات الودائع، وهي خطوة أنهت آلية التخصيص الجزئي، وسمحت بسحب كامل للسيولة من السوق، دون استثناءات أو تقييد، وهو ما أسهم في السيطرة على معدلات الطلب، وكبح جماح التضخم عند مصدره الرئيسي.

كما حافظ البنك المركزي على نسبة الاحتياطي الإلزامي عند 18%، وعمل في الوقت ذاته على تنسيق محكم مع وزارة المالية بشأن أدوات الدين الحكومية، لضبط إيقاع الدين العام وتفادي أي تضخم مستتر من خلال الإصدارات المحلية.

سياسة نقدية صارمة تنجح في خفض التضخم

وبفضل هذه السياسة النقدية المحكمة، بدأ التضخم في التراجع تدريجيا، حيث انخفض معدل التضخم العام من 22.6% في يناير 2025 إلى 10% في فبراير، رغم عودة طفيفة في أبريل مسجلة 10.4% بفعل عوامل موسمية، في حين استقر التضخم الأساسي السنوي عند 13.1% في مايو، وهو ما فتح الباب أمام تحول جديد في السياسة النقدية، لكن هذه المرة نحو التيسير.

كيف أعاد البنك المركزي المصري التوازن للاقتصاد؟

قرارات البنك المركزي: بداية مدروسة للتيسير

بمجرد أن ظهرت مؤشرات موثوقة على تراجع الضغوط التضخمية، بدأ البنك المركزي في اتباع سياسة التيسير النقدي التدريجي، وكانت أولى خطواته خفض سعر الفائدة بواقع 225 نقطة أساس في أبريل 2025، وهو أول خفض منذ خمس سنوات، ثم أعقبها تخفيض إضافي بمقدار 100 نقطة أساس في مايو.

لكن هذا التحول لم يكن نتيجة اندفاع، بل تم وفقا لحسابات دقيقة، واستنادًا إلى قراءة متأنية للبيانات الاقتصادية ومؤشرات التضخم، وهو ما يعكس قدرا عاليا من المرونة والانضباط، حيث لم يتحرك البنك إلا بعد تحقق فعلي لمستهدفاته النقدية.

تحرير سعر الصرف: خطوة حاسمة لضبط سوق العملة

إلى جانب السياسات النقدية المباشرة، كان قرار تحرير وتوحيد سعر صرف الجنيه نقطة تحول محورية في ضبط سوق العملة، والقضاء على السوق السوداء، فهذا القرار، الذي اتخذ في مارس 2024، مثل ضربة قاصمة للمضاربات، وأسهم في إعادة الاستقرار إلى سوق النقد الأجنبي.

وساهمت هذه القرارات في زيادة تحويلا المصريين في الخارج – في ضربة قاسمة للسوق السودا – حيث سجلت خلال الفترة من يوليو 2024 وحتى مايو 2025، تحويلات المصريين من الخارج نحو 32.8 مليار دولار، مقابل 19.4 مليار دولار خلال نفس الفترة من العام المالي السابق، بزيادة تقترب من 70%، ما يعكس تعافيا قويا وتدفقا متزايدا للعملة الصعبة يدعم ميزان المدفوعات.

ورغم تقلبات عنيفة في الأسواق الخارجية، وخروج مؤقت للأموال الساخنة خلال التوترات الإقليمية بين إيران وإسرائيل، لم يتجاوز حجم الخروج 4 مليارات دولار، وهو ما عكسته قدرة السوق المحلية على امتصاص الصدمة، وعودة تلك التدفقات سريعا مع استقرار سوق الصرف، بدعم مباشر من السياسة النقدية الراسخة.

كيف أعاد البنك المركزي المصري التوازن للاقتصاد؟

استقرار سوق الصرف.. من الذروة إلى التوازن

شهد سعر الدولار ذروته في أبريل 2025، عندما تجاوز حاجز 51.7 جنيه، نتيجة أزمة في توفير العملة الأجنبية، لكنه بدأ في التراجع تدريجيا مع تحسن المعروض وهدوء الطلب، ليستقر في يونيو عند مستوى يتراوح بين 49 و50 جنيها.

وتراجع سعر الدولار بشكل ملحوظ خلال يوليو ليسجل اليوم ٤٨٫٦٩ جنيه، وذلك بفضل التحركات الدقيقة للبنك المركزي، الذي أدار السوق بقدر كبير من الحرفية والمرونة.

ورغم كل هذه النجاحات، ما زالت الضغوط التضخمية قائمة، خاصة بعد تطبيق الحكومة لقرارات تتعلق برفع أسعار المحروقات تدريجيا، وتعديلات في قانون الضريبة على القيمة المضافة، وهي خطوات ضرورية ضمن برنامج الإصلاح، لكنها تفرض تحديا جديدا أمام البنك المركزي، الذي يتجه للتريث في اتخاذ قرارات خفض إضافي للفائدة حتى تقييم أثر هذه المتغيرات.

سحب أكثر من 412 مليار جنيه من السوق

لم يكتف البنك المركزي بأداة الفائدة وحدها، بل واصل سحب السيولة بفعالية، حيث قام في يونيو 2025 بسحب أكثر من 412 مليار جنيه من السوق، بعائد بلغ 24.5%، وهو ما أسهم في منع السيولة الزائدة من تسربها إلى قنوات استهلاكية أو مضاربية، وأبقى على حالة انضباط نقدي واضحة، دون التسبب في خنق النشاط الاقتصادي.

ورغم خفض الفائدة، ما زالت البنوك تتعامل مع سوق الإقراض بحذر، نظرا لاستمرار حالة عدم اليقين، وتذبذب توقعات المستثمرين، لكن مع تراجع التضخم واستقرار سعر الصرف، من المتوقع أن تنعكس السياسة النقدية تدريجيا على حركة الإقراض، خاصة في القطاعات الحيوية مثل الصناعة والعقارات، بشرط استمرار التحسن في بيئة الأعمال.

كيف أعاد البنك المركزي المصري التوازن للاقتصاد؟

الشمول المالي.. دور حيوي للبنك المركزي

وفي إطار دعم التحول إلى اقتصاد رقمي، ورفع كفاءة الدفع غير النقدي، قاد البنك المركزي جهودًا كبرى شملت إطلاق العملة البوليمرية من فئة 20 جنيها، وتوسيع تطبيقات QR Code، ودعم المحافظ الإلكترونية، كجزء من رؤية استراتيجية لخفض الاعتماد على الكاش، وزيادة الشفافية المالية، وتحسين البنية التحتية للقطاع المصرفي.

مع نهاية النصف الأول من عام 2025، أصبح واضحا أن البنك المركزي المصري أعاد السيطرة الكاملة على أدوات السياسة النقدية، ووضع نفسه في موقع يتيح له التحرك المستقبلي وفقا للبيانات وليس التوقعات، وساهم في رفع الاحتياطي النقدي الأجنبي لمصر ليسجل 48.526 مليار دولار.

ومن المرجح، في حال استمر التضخم في التراجع واستقرت الأسعار، أن يشهد النصف الثاني من العام خفضًا إضافيًا للفائدة، ضمن استراتيجية التيسير المتدرج، مع الإبقاء على الحذر لضمان عدم عودة موجات تضخم جديدة.


التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *