التخطي إلى المحتوى

كواليس التنقل في السماء .. من يحدد حركة الطائرات حول العالم دون تصادم؟

كان “جيمس ميلر”، رجل الأعمال الثلاثيني، على متن رحلته المتجهة من نيويورك إلى لندن، جالسًا في مقعده بجانب النافذة يترقب وصوله إلى وجهته بعد أن أمضى سبع ساعات من الطيران بسلاسة.

 

وتوقع “ميلر” أن يستكمل رحلته في غضون دقائق قبل أن يأتي صوت قائد الطائرة عبر مكبر الصوت: سيداتي وسادتي، نعتذر عن التأخير، ننتظر الإذن للهبوط بسبب ازدحام الحركة الجوية في المطار.”

 

 

وفي حين تأفف بعض الركاب، نظر “ميلر” في ساعته بقلق، فقد كانت لديه اجتماعات لا تحتمل التأجيل، وبينما استمر قائد الطائرة في التحليق فوق المطار في انتظار الإذن بالهبوط، دارت العديد من الأسئلة في ذهنه.

 

للاطلاع على المزيد من المواضيع والتقارير في صفحة مختارات أرقام

 

ومن بين تلك الأسئلة من الذي يتحكم بكل هذه الطائرات؟ وكيف لا تصطدم ببعضها في هذا الزحام الجوي؟ ومن يحدد من يهبط أولًا ومن ينتظر؟.

 

كان هذا السؤال بداية رحلة أخرى، لكنها ليست في الجو، بل في أعماق العالم الخفي لإدارة الملاحة الجوية، حيث تُنسج خيوط الدقة والتنظيم وراء كل رحلة طيران تحلّق بأمان في سماء العالم.

 

أرقام لا تتوقف عن التحليق

لكي تتخيل حجم ما يحدث في الأجواء من حولنا كل يوم، تخيّل أنك تنظر إلى السماء باستخدام خريطة حرارية حية لكوكب الأرض،  سترى آلاف النقاط المضيئة تتحرك بلا توقف، تمثل كل منها طائرة تقل عشرات أو مئات الركاب، تعبر المحيطات، أو تخترق البلدان والقارات.

 

هذا المشهد ليس ضربًا من الخيال العلمي، بل هو الواقع اليومي لحركة الطيران العالمية ففي كل لحظة من اليوم، هناك أكثر من 10 آلاف طائرة تجارية تحلق في السماء، تنقل ملايين الركاب في شبكة متشابكة تشبه خيوط العنكبوت على خريطة الكوكب.

 















أكبر 10 شركات طيران من حيث عدد الرحلات (يونيو 2025)

الترتيب

اسم الشركة

عدد الرحلات


(بالألف)

نسبة التغير %


(مقابل يونيو 2024)

1

أميركان إيرلاينز

197.7

5.4

2

دلتا إيرلاينز

158.3

6.4

3

يونايتد إيرلاينز

148.8

8.7

4

ساوث ويست إيرلاينز

125.8

-1.3

5

رايان إير

105.9

3.5

6

تشاينا إيسترن

71.6

1.7

7

تشاينا ساوثرن

67.8

2.1

8

إنديجو

66.2

9.3

9

إيزي جت

54.6

0.3

10

لاتام الجوية

46.8

6.9

 

ووفقًا لموقع “فلايت رادار 24″، وهو من أبرز منصات تتبّع الرحلات عالميًا، تُسجَّل في السماء أكثر من 100 ألف رحلة جوية يوميًا خلال أوقات الذروة، ما يجعل الحركة الجوية واحدة من أكثر النظم البشرية تعقيدًا وتنظيمًا.

 

 

وتُعد الولايات المتحدة وأوروبا من أكثر مناطق الازدحام الجوي، حيث تقلع وتهبط آلاف الرحلات يوميًا بين مطارات مثل أتلانتا، وهيثرو، وشارل ديجول، ودبي.

 

وفي عام 2024، نقلت شركات الطيران حول العالم نحو 4.7 مليار راكب، بحسب تقديرات الاتحاد الدولي للنقل الجوي (IATA)، وهو رقم يقترب من مستويات ما قبل الجائحة، ويعكس سرعة تعافي القطاع.

 

كما يتم شحن ما يزيد عن 65 مليون طن من البضائع سنويًا عبر الأجواء، ما يجعل الطيران ليس فقط وسيلة تنقل، بل أيضًا شريانًا اقتصاديًا حيويًا.

 

وتتوقع IATA أن يرتفع عدد الركاب عالميًا إلى نحو 8 مليارات بحلول عام 2040، وهو ما يتطلب استثمارات ضخمة في البنية التحتية، وزيادة الاعتماد على التقنيات الذكية، وتعزيز كفاءة أنظمة المراقبة الجوية.

 

نظام ملاحي كخلية نحل لا تهدأ

بالنسبة للمسافر العادي، تبدو مسارات الطيران بسيطة فهي مجرد الإقلاع من مطار والانطلاق نحو وجهته المقصودة، لكن الواقع أكثر تعقيدًا مما يبدو.

 

فخلف كل إقلاع آمن، ورحلة سلسة، وهبوط دقيق، هناك نظام غير مرئي لكنه حاسم ويشمل مراقبة الحركة الجوية، وشبكة عالمية تدير تحركات آلاف الرحلات يوميًا وتحافظ على سلامة الأجواء، تعمل كخلية النحل حيث تؤدي كل عنصر فيها مهامه بدقة لا تُخطئ.

 

فكل رحلة طيران عبارة عن قطعة في لوحة عالمية ضخمة، فالسماء مقسّمة إلى مناطق معلومات طيران.

 

وتتولى كل دولة أو جهة إقليمية مسؤولية مراقبتها حيث تقوم هذه الجهات بتوجيه الطائرات عبر طرق محددة تُعرف بـ الممرات الجوية، تشبه الطرق السريعة، ولكن في السماء.

 

وقبل أن تقلع أي رحلة، يجب على شركة الطيران تقديم خطة طيران مفصّلة تتضمن المسار، والارتفاع، والسرعة، والتوقيت.

 

 

ويقوم مراقبو الحركة الجوية بمراجعة هذه الخطة بعناية لتفادي تداخلها مع مسارات طائرات أخرى أو مع اضطرابات جوية محتملة، ويجب أن يكون التنسيق بالغ الدقة، وحتى أدق التغييرات في المسار يجب أن تحصل على إذن مسبق.

 

أوركسترا عالمية للسلامة

تضع منظمة الطيران المدني الدولي، التابعة للأمم المتحدة، المعايير العالمية لإدارة الحركة الجوية، لكن التنفيذ الفعلي يقع على عاتق شبكة من السلطات الوطنية للطيران ومراكز التنسيق الإقليمية.

 

فعلى سبيل المثال تتولى هيئة الطيران الفيدرالية في الولايات المتحدة، إدارة واحدة من أكثر الأجواء ازدحامًا وتعقيدًا في العالم.

 

وفي أوروبا، تلعب يوروكونترول دورًا مماثلًا، من خلال التنسيق بين عدة جهات وطنية، أما فوق المحيطات، حيث لا تعمل الرادارات الأرضية، فإن تتبع الأقمار الصناعية وتقارير موقع الطيارين تُبقي النظام فعالًا.

 

وفي أوقات الأزمات يمكن لأحداث مثل الانفجارات البركانية أو الحروب أو الصراعات الجيوسياسية أن تؤدي إلى إغلاق أجواء كاملة خلال ساعات.

 

فعلى سبيل المثال، تسبّب ثوران بركان آيسلندا في عام 2010 في تعطيل الطيران الأوروبي لأيام، كما أجبرت الحرب بين روسيا وأوكرانيا في 2022 مئات الطائرات على تغيير مساراتها لتفادي المجال الجوي المتأزم، ما أضاف ساعات إلى بعض الرحلات.

 

في مثل هذه الحالات، يكون التعاون الدولي أمرًا مصيريًا، فإغلاق الأجواء يستدعي إعادة تخطيط فوري للمسارات الجوية، بتنسيق عبر منصات رقمية واتفاقيات ثنائية.

 

ورغم اختلاف الجهات، يستخدم الجميع اللغة الإنجليزية للطيران مع عبارات موحدة تقلّل من فرص سوء الفهم، وهي قاعدة يُعتقد أنها أنقذت عددًا لا يُحصى من الأرواح.

 

الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا يقودان المشهد

يعتمد نظام مراقبة الحركة الجوية الحديث على مزيج من الرادارات، والملاحة بالأقمار الصناعية، وأنظمة البيانات الآلية، ومؤخرًا، الذكاء الاصطناعي.

 

فقد غيّرت أنظمة مثل ADS-B (نظام البث التلقائي المعتمد على تحديد الموقع) شكل مراقبة الطائرات، إذ تقوم الطائرة ببث موقعها الجغرافي كل ثانية، ما يسمح بتتبع أكثر دقة حتى في المناطق النائية.

 

 

وبدأت أنظمة الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي في المساهمة بمجالات مثل كشف تعارض المسارات، وتحسين استخدام الأجواء، والصيانة الاستباقية، مما يمكّن المراقبين من إدارة المزيد من الرحلات بكفاءة وأمان أعلى.

 

ورغم هذا التطور، تبقى المنظومة معرضة للعطل، ففي يناير 2023، شهدت الولايات المتحدة إيقافًا عامًا للرحلات بسبب عطل في نظام إبلاغ الطيارين، وكانت النتيجة آلاف الرحلات المتأخرة، مما سلط الضوء على هشاشة البنية التحتية القديمة.

 

وبالإضافة إلى هذا يوجد دائمًا خطط بديلة، فأنظمة مثل TCAS (نظام تجنب الاصطدام الجوي) المثبتة في الطائرات، تكشف الطائرات القريبة وتقدم تعليمات فورية للطيارين لتجنّبها كخط دفاع أخير عندما تنقطع الاتصالات مع مراقبة الحركة الجوية.

 

ومع إمكانية دخول الطائرات بدون طيار والمركبات الطائرة المستقبلية إلى الاستخدام الواسع، تستعد الهيئات المنظمة لمرحلة جديدة، وهي كيفية دمج هذه الطائرات المستحدثة في أجواء مزدحمة أصلًا.

 

لهذا السبب، ظهرت مشاريع مثل “يو سبيس” في أوروبا و”يو تي إم” في الولايات المتحدة، والتي تهدف إلى تنظيم حركة هذه الطائرات من خلال ممرات رقمية وأنظمة مرور ذكية على ارتفاعات منخفضة.

 

وفي المستقبل، قد يعتمد المراقبون الجويون بشكل أكبر على الذكاء الاصطناعي لإدارة العمليات، بينما يركّزون هم على الحالات الطارئة والاستثنائية.

 

لكن حتى ذلك الحين، تبقى السلامة الجوية معتمدة على التوازن الدقيق بين حكم الإنسان ودقة التكنولوجيا والتعاون العالمي.

 

لا تزال الطائرة وسيلة النقل الأكثر أمانًا، بفضل الجهود التي لا تنقطع لمراقبي الحركة الجوية والمتخصصين في الطيران الذين يعملون خلف الكواليس.

 

فكل هبوط ناجح هو نتيجة تخطيط دقيق، ومراقبة مستمرة، وتعاون عالمي لا يعرف التوقف. ومع استمرار نمو حركة الطيران، يتعاظم التحدي ويزداد الابتكار لمواكبته.

 

المصادر: أرقام- منظمة الطيران المدني الدولي- هيئة الطيران الفيدرالية الأمريكية- يوروكونترول- فلايترادار24- بي بي سي- بلومبرج- ذا جارديان- الاتحاد الدولي للنقل الجوي

للمزيد من المقالات

اضغط هنا

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *