التخطي إلى المحتوى

دروس التاريخ .. كيف يبني البعض نجاحه في الأسواق على الجهل وضعف التنظيم؟

في 29 ديسمبر من عام 2019، كان فريق ليفربول الإنجليزي يخوض مباراة صعبة ضد وولفرهامبتون، حيث بالكاد استطاع تسجيل هدف التقدم ضد منافسه العنيد من كرة خضعت لمراجعة طويلة من حكم الفيديو قبل الإقرار بصحتها.

 

 

لم تكن هذه هي مشكلة المباراة ذات الإيقاع المتسارع، فوسط ضغط عال وسريع أدرك وولفرهامبتون التعادل، قبل أن يفاجأ جميع من في الملعب بإلغاء الحكم للهدف وتوقف المباراة وسط اعتراضات قوية من اللاعبين والجماهير.

 

للاطلاع على المزيد من المواضيع والتقارير في صفحة مختارات أرقام

 

وبعد مراجعة طويلة من زوايا عدة، أقر حكم الفيديو (VAR) بعدم صحة الهدف لوجود تسلل بفارق ضئيل للغاية (سينتمترات قليلة للغاية أو حتى مليمترات)، لتنفجر الجماهير ولاعبي وولفرهامبتون بالغضب، إذ لم يكن بمقدور أحد ملاحظة هذا التسلل بالعين المجردة.

 

ساهمت هذه الواقعة في فوز الريدز بثلاث نقاط ثمينة، فرغم أنه أنهى هذا الموسم في الصدارة بفارق واسع عن أقرب منافسيه، لكن في الدوري الإنجليزي الممتاز يمكن للنقطة الواحدة أن تحدث فرقًا كبيرًا، مثلما حدث في موسمي 2018/2019 و2021/2022 عندما خسر ليفربول نفسه البطولة بفارق نقطة واحدة.

 

عقب هذه المباراة، قال مجلس الاتحاد الدولي لكرة القدم (IFAB) الذي يُنظم لوائح الرياضة، إن الدوري الإنجليزي الممتاز لا يستخدم تقنية حكم الفيديو بشكل صحيح، وإنه يجب استخدامها لحسم الحالات الواضحة وليس تلك “الهامشية التي تتطلب توقفًا طويلًا للتبين من صحتها”.

 

وأصدر المجلس توجيهات لدوريات كرة القدم تؤكد ضرورة اعتماد التقنية الحالات التي يسهل حسمها من المراجعة الأولى، لكن على أي حال كانت المباراة قد حسمت والنقاط احتسبت لفريق ليفربول بالفعل.

 

هذا يشبه حالات تتكرر كثيرًا، حيث يعتمد فوز البعض – وخسارة البعض الآخر – أحيانًا على ثغرات قانونية أو لوائح غير واضحة، وكثيرًا ما ينتج عن ذلك قواعد جديدة، والتي تغير في بعض الحالات شكل المنافسة تمامًا.. لكن ذلك لا يقتصر على عالم كرة القدم فقط!

 

 

كما أن فارقًا بسيطًا في زاوية كاميرا أو تفسير تحكيمي قد يحسم مصير مباراة، وبالتالي مصير البطولة الأكبر، فإن هامشًا ضئيلًا في فهم القواعد أو ثغرة غير مُغلقة في الأسواق المالية قد تُستغل لتحقيق مكاسب هائلة، والأسوأ أنها قد تكون سببًا في خسائر ضخمة للآخرين.

 

بعض المستثمرين – مثل بعض الفرق – لم يكسبوا فقط بفضل مهارتهم، بل لأنهم كانوا يعرفون كيف يتحركون داخل مناطق رمادية من القوانين  أو يستفيدون من تأخر “حكم الفيديو المالي” في التدخل.

 

عصر المضاربة الجامحة

 

– جسّد “جيسي ليفرمور” ذروة مضاربات وول ستريت الحادة في أوائل القرن العشرين، حيث اشتهر باسم “الفتى الغواص” أو “Boy Plunger”، حيث تشير “Plunger” إلى مضارب يغامر بمبالغ ضخمة في صفقات عالية المخاطر، و”Boy” تشير إلى سنه الصغيرة، مما جعله ظاهرة لافتة.

 

– عمل “ليفرمور”، المولود في عام 1877، في ظل غياب قوانين الأوراق المالية الفيدرالية أو الرقابة، مستغلًا كل ثغرة هيكلية متاحة، من التداول بناءً على المعلومات الداخلية، وعمليات تنسيق الأسعار، والتكتلات الهادفة لخفض الأسهم، وكلها كانت أمور قانونية ومتفشية، وكانت الإفصاحات المالية الموثوقة نادرة.

 

– أتقن “ليفرمور” التداول الفني والرهانات القائمة على الشائعات، محققًا أرباحًا طائلة من خلال توقع التقلبات الكبيرة في السوق، مثل بيعه الأسهم على المكشوف قبل “ذعر 1907” وقبل “انهيار 1929“، مستخدمًا أكثر من 100 وسيط لإخفاء مراكزه البيعية الضخمة.

 

– حتى أن بعض التقارير ترجح أنه حقق ربحًا يقارب 100 مليون دولار في 1929، وهو مبلغ هائل بقيمة النقود آنذاك، وفي أعقاب الانهيار، وصفته الصحف بـ”الدب الأكبر في وول ستريت” أو “Great Bear of Wall Street”، وتلقى تهديدات بالقتل من المستثمرين الغاضبين.

 

– سلّط نجاح “ليفرمور” الضوء على “كيف سمح غياب التنظيم بالتلاعب المفرط في السوق”، إذ لم تكن هناك قيود على استخدام الرافعة المالية أو البيع على المكشوف، ولا شرط للإفصاح عن المراكز الكبيرة، ولا هيئة لمراقبة الاحتيال.

 

 

– كشف انهيار عام 1929 والغضب الشعبي تجاه المضاربين عن العيوب الهيكلية، وسرعان ما ركز المشرعون على ممارسات مثل التداول بناءً على المعلومات الداخلية، وتنسيق الأسعار، وممارسة “غارات الدببة” لخفض أسعار الأسهم.

 

– أدى انهيار 1929 إلى إصلاحات تنظيمية كبرى غيّرت الأسواق في الولايات المتحدة بشكل دائم، حيث أنشأ الكونجرس هيئة الأوراق المالية والبورصات، والتي حظرت المخططات التلاعبية والممارسات التي استغلتها شخصيات مثل “ليفرمور”، وفرضت متطلبات الشفافية وقواعد التداول العادلة.

 

اختلاس في وول ستريت

 

– في حلقة أخرى من قلة الوعي وغياب الرقيب، تحول “ريتشارد ويتني” من “فارس وول ستريت الأبيض” إلى مجرم، بعدما كان أحد أبرز قادة السوق ومن بين النخبة الاجتماعية، حيث تخرج من جامعة هارفارد، وتولى رئاسة بورصة نيويورك (1930-1935)، وحظي بالاحترام لمحاولته تحقيق الاستقرار خلال أزمة 1929.

 

– لكن وراء هذه السمعة، كان “ويتني” متورطًا في عمليات احتيال، وبحلول منتصف الثلاثينيات، فشلت رهاناته واقترض بكثافة سرًا لتغطية خسائره، وعندما نفدت قروضه، استغل نقاط ضعف الرقابة (التي هي جزء من مهمته) واختلس أموالًا من منظمات قادها أو من مناصب أشرف عليها.

 

– شمل ذلك نهب صندوق الإكراميات في بورصة نيويورك (صندوق استئماني للأرامل والأيتام)، وسرقة صندوق تركة والد زوجته، وحتى اختلاس أموال من نادي نيويورك لليخوت أثناء عمله أمينًا لصندوقه.

 

– مرّت هذه السرقات مرور الكرام لسنوات نظرًا لسمعة “ويتني” الممتازة وغياب الضوابط الداخلية، لكن في مارس 1938، كشف مراقب بورصة نيويورك دليل اختلاسه وإفلاس شركته للوساطة، ما صدم عالم المال والرأي العام.

 

– تحركت السلطات بسرعة، وفي غضون أيام، وجّه المدعي العام لنيويورك، لائحة اتهام إلى “ويتني” بتهمة السرقة الكبرى، وأقر الأخير بالذنب وحُكم عليه بالسجن لمدة تتراوح بين 5 و10 سنوات.

 

 

– تجمعت حشود غفيرة لمشاهدة الرجل الذي كان يحظى بالاحترام سابقًا وهو يُقتاد مكبل اليدين، وبيعت ممتلكاته ويخته وأصوله في مزاد علني لسداد ديون العملاء الذين تعرضوا للاحتيال، وعانى شركاؤه من الإفلاس، حيث أصبحوا مسؤولين شخصيًا عن ديون الشركة بموجب قانون الشراكة.

 

– بعثت هذه الفضيحة برسالة واضحة مفادها أنه لا يوجد فرد، مهما بلغت مكانته، فوق القانون، ودفعت الفضيحة إلى مراجعة ذاتية وإصلاح عاجلين في الحوكمة المالية، وخلص تحقيق إلى وجود “معايير متساهلة” في البورصة، وأعقب ذلك سلسلة من التغييرات الرئيسية.

 

الذئاب تستغل الثغرات

 

– بعد عقود من قصتي “ليفرمور” و”ويتني”، أنشأت شركة “ستراتون أوكمونت” التي أسسها “جوردان بيلفورت” (ذئب وول ستريت) عام 1989، شبكة وساطة احتيالية باعت أسهمًا رخيصةً في سوق خارج البورصة (OTC) بكثافة لمستثمري التجزئة الذين لا يملكون ما يكفي من المعرفة للشك في التلاعب.

 

– نفّذت الشركة عمليات تعرف باسم “التضخيم ثم التصريف”، حيث رفعت أسعار الأسهم منخفضة القيمة بشكل مصطنع عبر نشر معلومات مضللة، ثم باعت حصصها عند وصول السعر إلى الذروة، مما كلف المستثمرين الآخرين خسائر ضخمة، مع رفض “ستراتون ” حتى معالجة أوامر بيع العملاء لدعم الأسعار.

 

– استغلت في هذه العملية ضعف الرقابة خلال تلك الحقبة على سوق خارج البورصة ذي التنظيم الضعيف، حيث أدى انخفاض الشفافية وضعف معايير الإدراج إلى خلق بيئة خصبة للاحتيال.

 

– في ديسمبر 1996، شطبت الرابطة الوطنية لوسطاء الأوراق المالية شركة “ستراتون أوكمونت”، ووُجهت اتهامات إلى “بيلفورت”، الذي أقرّا بالذنب عام 1999، واعترف بالتلاعب بأسهم 34 شركة على الأقل.

 

– رغم انهيار إمبراطوريته وسجنه لاحقًا، تقدر ثروته الآن بأكثر من 100 مليون دولار، بفضل مبيعات الكتب، وبرامج التدريب في مجال المبيعات، ويصل أجره لإلقاء الخطب إلى عشرات آلاف الدولارات، ومع ذلك، ترجح بعض التقارير أنه لا يملك شيئًا فعليًا ولا يزال يسدد ديونه.

 

 

– في أواخر التسعينيات، شددت هيئة الأوراق المالية والجمعية الوطنية لوسطاء الأوراق المالية، قواعد الأسهم الرخيصة (Penny stocks)، وفرض المنظمون الإفصاح عن المخاطر وإجراءات العناية الواجبة من قبل الوسطاء، وعززوا الرقابة على شركات الوساطة.

 

– بحلول عام 2000، شكلت هيئة الأوراق المالية فرقة عمل معنية بمكافحة الاحتيال في أسهم الشركات الصغيرة، ووُضعت قواعد أكثر صرامة على الاتصالات غير المرغوب فيها لحماية المستثمرين الأفراد، وشددت القواعد على شبكات التداول المضللة وعلى توظيف الوسطاء ذوي السلوك السيئ.

 

– في الأسواق، تشبه الأمور أحيانًا مباريات كرة القدم، حيث لا يُحسم الفوز بالأداء الجيد والعادل دائمًا، وإنما بمعرفة القواعد أكثر من احترامها، وبالقدرة على التسلل من بين سطور التنظيم قبل أن يلتفت الرقيب.

 

– في عالم الاستثمار، الذئاب لا تنتظر صافرة الحكم، بل تسبقها، والجهل ليس هو الخطر الأكبر بل الثقة الزائدة، كما أن اكتشاف الخطأ لا يعني بالضرورة تعويض الطرف المظلوم كما حدث مع وولفرهامبتون.

 

المصادر: أرقام- بي بي سي- إندبندنت- الجارديان- إي إس بي إن- ميديم- إنفستوبيديا- واشنطن بوست- نيويورك تايمز- موقع تاريخ لجنة البورصات الأمريكية- جي إف إف بروكرز- مكتبة الكونجرس- بي بي إس- تايمليس جورنال- كوين بيبر- هيستوري نت- بيانات هيئة تنظيم القطاع المالي الأمريكي

للمزيد من المقالات

اضغط هنا

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *