التخطي إلى المحتوى

لماذا تَحكي إخفاقاتُنا عنّا ما لا يقوله سجل نجاحاتنا؟

– “لا تُواجهني بإخفاقاتي؛ فما زالت ذكراها حية”، بهذه الكلمات الموجزة للشاعر جاكسون براون، يتلخص موروث ثقافي كامل يدعونا إلى طيّ صفحة الفشل، والتركيز حصرًا على ومضات النجاح، وإلقاء الخسائر في غياهب النسيان.

 

– بيد أن هذه الحكمة التقليدية هي ما أصابت الدكتورة دورثي تشين، أستاذة علم النفس المرموقة بجامعة كاليفورنيا، بحالة من الحيرة والدهشة.

 

– فبينما احتفت النشرة الإخبارية لجامعتها بمسيرتها المهنية التي امتدت على مدى ربع قرن، لم تجد في ثنايا ذلك التكريم سوى شعور غريب بالخواء والبرود.

 

– استعرض المقال سيرتها الأكاديمية اللامعة، وأبحاثها الرصينة، وقائمة طلابها، وسلسلة نجاحاتها المتتالية، راسمًا صورة وردية متكاملة؛ لكنها، ويا للغرابة، بدت لها صورة جوفاء.

 

– تساءلت في سرها: “أهذا كل شيء؟”. لقد بدت الحصيلة ضئيلة وشاحبة أمام كل تلك السنوات الطوال. ورغم أنها كرّست حياتها لتربية طفلين رائعين، وهو ما كان أولويتها المطلقة، ظل الشعور بأن مسيرتها المهنية باهتة يراودها.

 

– ثم، في لحظة تجلٍّ نادرة، أضاءت ذاكرتها كل تلك المشاريع التي سعت لتحقيقها وتعثرت في الطريق. أمسكت بقلمها، وبدأت تدوّن قائمة طويلة، وثرية، ومدهشة من محاولاتها الضائعة.

 

– وخلافًا لكل ما تعلمته، ما إن أتمت كتابتها حتى غمرها شعور بالرضا والامتنان، أعمق وأصدق من أي تكريم.

 

قائمة الشرف المنسية: حين يكون الفشل شاهدًا على المبدأ

 

 

– كانت تلك القائمة بمثابة بانوراما لذاكرة مهنية بديلة، قائمة شرفٍ منسية؛ فقد ضمت تلك المرة التي حاولت فيها الإبلاغ عن بعض المخالفات الإدارية، حين ارتفع صوتها بالتحذير من مخاطر تهدد سلامة الطلاب، فلم تجد صرختها سوى آذان صمّاء، في معركة طويلة ومُحبِطة لم تُفضِ إلى تغيير يُذكر.

 

للاطلاع على المزيد من المواضيع والتقارير في صفحة مختارات أرقام

 

– وضمّت سعيها الدؤوب لاستضافة زميلة حاصلة على زمالة “العبقرية” المرموقة، لتشارك أبحاثها الرائدة حول التحيز العنصري، وهو الاقتراح الذي قوبل ببرود وتجاهل تام.

 

– وذلك البرنامج الطموح الذي أطلقته للإرشاد الطلابي، ورغم نجاحه المبدئي، تُرك ليواريه النسيان ببطء. وحلمها الذي لم يرَ النور قط بإنشاء صالة مشتركة لتعزيز الروابط الإنسانية بين الأساتذة والطلاب.

 

 

– والقائمة تطول لتشمل أفكارًا ناضلت من أجلها، وكرّست لها ساعات لا تُحصى من الشغف والجهد، بعضها وصل إلى عتبة التحقيق قبل أن يتعثر، وبعضها الآخر وُئِد في مهده.

 

فلسفة الإخفاق: شجاعة المحاولة أثمن من بريق النجاح

 

 

– وهنا تُقرّ عالمة النفس، بأن كل فشل ترك في نفسها غصة من الإحباط والمرارة والسخط، وطرح سؤالًا: “لماذا يرفضون الإنصات إليّ؟”. ثم تعود لتعتصم بالحكمة القديمة: “تجاوزِ الأمر، وامضِ قدمًا، ولا تلتفتِ إلى الوراء”.

 

– بيد أن السنين منحتها منظورًا مختلفًا وأكثر نضجًا؛ فالنجاح، بطبيعته، غالبًا ما يكون أيسر منالًا من الفشل، لأننا نميل للنجاح في مهام بسيطة لا تتطلب عناءً يُذكر (مثل تنظيف أسناننا صباحًا، أو الوصول إلى العمل في الموعد).

 

– أما محاولة إنجاز “مهمة سيزيفية” تغيّر الواقع حقًا، فهي مغامرة محفوفة بالمخاطر لا يجرؤ على خوضها إلا القليل.

 

– وهي لا تدّعي، بصدق وأمانة، أن جهودها الضائعة قد مهدت الطريق لنجاحات تحققت لاحقًا على أيدي الآخرين، فتلك ليست الحقيقة الكاملة.

 

– بل إن جلّ تلك الأفكار، أو معظمها، أُنجزت بالفعل، ولكن على يد أشخاص آخرين، ربما في توقيت أنسب، أو بفضل كفاءة أعلى.

 

– وهنا يكمن جوهر المسألة، إذ لم يعد هذا الأمر يُحبطها أو يدفعها للبحث عن تبرير ضمني بأن أفكارها كانت “صائبة” في جوهرها.

 

ما وراء السطور: إخفاقاتُنا مرآة لأرواحنا

 

– تُعقّب الدكتورة تشين بأن بعض أفكارها كانت جديرة بالاهتمام فعلًا، وبعضها الآخر لم يكن سوى “محاربة لطواحين الهواء”؛ لقد سلكت دروبًا مسدودة، وأهدرت وقتًا وطاقة لا يمكن استردادهما.

 

– ولكن، وفي تعديل بليغ للمقولة المأثورة “النجاح له ألف أب، أما الفشل فيتيم”، وجدت أن الاحتفاء بإخفاقاتها كان سبيلًا أعمق وأكثر إرضاءً لتقييم رحلتها في الحياة.

 

– فبينما تُمثل نجاحاتُنا بطاقةَ تعريفنا الرسمية أمام العالم، فإن إخفاقاتنا هي المرآةُ الأدق التي تعكس حقيقتنا وما نؤمن به من قيم.

 

– كانت كل تلك المحاولات المتعثرة برهانًا ساطعًا على شيء واحد فقط: أنها مهتمة حقًا بصنع تغيير إيجابي. وفي نهاية المطاف، هذا الاهتمام هو القيمة الحقيقية التي تبقى.

 

المصدر: سيكولوجي توداي

للمزيد من المقالات

اضغط هنا

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *