التخطي إلى المحتوى

حين يلتقي العمل بالترفيه .. السفر المزدوج سياحة واستجمام دون إجازة

في صباح صيفي منعش في مدينة أوساكا اليابانية، كان “جوناثان بيركلي”، مدير العمليات في شركة استشارات مالية مقرها لندن، يُنهي عرضه التقديمي في مؤتمر دولي حول التكنولوجيا المالية.


هذا العرض التقديمي جاء في ختام جدول عمل صارم كان مخطط له في هذا الرحلة، شمل العديد من الأحداث مثل الاجتماعات، والندوات، وعشاء عمل رسمي.


لكن بدلاً من العودة إلى بريطانيا فور انتهاء هذا الجدول، قرر “بيركلي” أن يمدّد إقامته يومين إضافيين في أوساكا.

خلال هذا الوقت الإضافي تمكن “بيركلي” من استقلال قارب في نهر دوتونبوري وسط المدينة، وتجوّل في الأسواق المحلية لتذوّق أطباق “تاكوياكي” الشهيرة.

 

للاطلاع على المزيد من المواضيع والتقارير في صفحة مختارات أرقام

 

كما أمضى أمسياته في استكشاف الحياة الليلية النابضة بالألوان والضوء في منطقة نامبا، حيث يمتزج الحديث بالتقليدي في مشهد حضري لا يُنسى.


بالنسبة لـ”بيركلي”، لم يعد السفر من أجل العمل مجرد التزام وظيفي تقليدي، بل فرصة شخصية للاستكشاف والاسترخاء، ومتنفس من ضغط مهام العمل المتلاحقة.


قصة “بيركلي” ليست استثناءً، بل تمثل ملامح ظاهرة عالمية آخذة في التوسع بهدوء، تُعرف باسم “السفر المزدوج” أو (bleisure) وهي دمج العمل بالترفيه في نفس الرحلة.


ففي عالم يعاد فيه تعريف حدود المكتب، وتتغير فيه أنماط التنقل والسفر المهني بفعل التكنولوجيا وأساليب العمل المرنة، بات من الشائع أن يستغل الموظفون رحلات العمل لتمديد إقامتهم، واكتشاف مدن جديدة، أو حتى قضاء عطلة صغيرة مموّلة جزئياً من الشركة.


في ظل هذا التحول، يبرز سؤال جوهري، هل أصبح السفر من أجل العمل هو الترفيه الجديد؟


نمو هائل في أرقام السفر المزدوج

تشير تقديرات شركة تحليل والأبحاث المتخصصة في قطاع السفر تورزيم إكونوميكس إلى أن سوق السفر العالمي تجاوز 5.5 تريليون دولار في 2024، فيما بلغ حجم الإنفاق على السفر التجاري وحده نحو 1.48 تريليون دولار، بزيادة ملحوظة عن السنوات السابقة.


اللافت أن قطاع  السفر المزدوج تحديدًا نما بنسبة 19%، متجاوزًا معدل نمو السفر الترفيهي التقليدي الذي لم يتجاوز 11% في الفترة نفسها.


أما تقارير شركة نافان الأمريكية المتخصصة في إدارة السفر والنفقات فتؤكد أن حجم سوق “bleisure” وصل إلى 315 مليار دولار في 2022، ومن المتوقع أن يقفز إلى 731 مليار دولار بحلول عام 2032، بمعدل نمو يبلغ 8.9% سنويًا.


لماذا يختار الناس دمج العمل بالترفيه؟


أظهرت دراسة لمنصة ترافيل باريك أن السبب الأول هو التوازن النفسي والمهني حيث يخطط 76% من المسافرين للعمل لإضافة جزء ترفيهي إلى رحلاتهم خلال الاثني عشر شهرًا المقبلة.

كذلك، يؤكد تقرير ديلويت أن الموظفين يشعرون بتحسن في الإنتاجية والرضا الوظيفي عند منحهم فرصة للاستراحة ضمن رحلات العمل.


أما السبب الثاني فهو المرونة الجديدة التي سمح بها العمل عن بُعد، فوفقًا لموقع صحيفة نيويورك بوست، فإن 47% من الموظفين يعملون بنمط هجين يشجّع على تمديد الإقامة خلال الرحلات، سواء لأغراض عائلية أو ترفيهية.

 

مقارنة بين السفر المزدوج والسفر الترفيهي التقليدي









البند

السفر الترفيهي التقليدي

السفر المزدوج

متوسط مدة الرحلة

7–10 أيام

5–8 أيام

الجهة الممولة

المسافر (كليًا)

الشركة (جزئيًا)

الهدف الأساسي

الترفيه فقط

العمل + الترفيه

توقيت الرحلة

مرتبط بالإجازات

مرتبط بمهمة

التكلفة على المسافر

أعلى

أقل


ومن الجوانب المهمة التي تدفع الكثيرين لهذا النمط من السفر، هو الجانب الاقتصادي، إذ يرى العديد من المسافرين أن تمديد الإقامة لأغراض شخصية بعد انتهاء المهام الرسمية يُعد خيارًا ذكيًا لتوفير النفقات.


وبما أن جهة العمل تغطي تكاليف الرحلة الأساسية مثل تذاكر الطيران والإقامة خلال أيام العمل، فلا يتبقى على الموظف سوى تكلفة الليالي الإضافية والأنشطة الترفيهية، ما يجعل من “السفر المزدوج” وسيلة فعّالة لقضاء عطلة جزئية بتكلفة أقل بكثير من السفر المستقل.


وبحسب بيانات شركة “ناڤان”، فإن ما يصل إلى 35% من المسافرين للعمل قاموا بتمديد إقامتهم في 2024 مستفيدين من التغطية الجزئية التي توفرها رحلات العمل الرسمية.


مدن برزت كوجهات للسفر المزدوج


بعض المدن العالمية بدأت بالفعل في الاستفادة من هذا التوجه، فمدينة كيرنز الأسترالية تُعرف اليوم بأنها “عاصمة السفر المزدوج”، حيث يبلغ متوسط إقامة المسافر للعمل فيها 8 أيام، بعدما كان لا يتجاوز 3 أيام قبل خمس سنوات.

أما بريسبان، ثالث أكبر مدينة في أستراليا والعاصمة الثقافية لولاية كوينزلاند، فقد سجلت إنفاقًا سياحيًا قياسيًا بلغ 11 مليار دولار في عام 2024، بفضل ارتفاع بنسبة 13.5% في فترات الإقامة المرتبطة برحلات العمل.


وفي برشلونة الإسبانية، تشير بيانات “TravelPerk” إلى أن 42% من المسافرين لأغراض العمل اختاروا تمديد رحلاتهم ليومين إضافيين على الأقل، غالبًا لزيارة المعالم التاريخية أو الاستمتاع بشواطئ المدينة.


كما برزت سنغافورة كوجهة مفضلة للمسافرين من دول شرق آسيا، إذ تجمع بين المؤتمرات العالمية والمناطق الترفيهية الراقية، ما جعل متوسط الإقامة للرحلات المختلطة فيها يرتفع إلى 6.5 أيام، وفق تقرير Navan لعام 2025.


وبرزت أمستردام في هولندا كإحدى أبرز الوجهات الأوروبية لهذا النوع من السفر، بفضل بيئتها الصديقة للدراجات وتعدد الفعاليات الثقافية، حيث سجلت ارتفاعًا بنسبة 19% في حجوزات تمديد الإقامة بعد الاجتماعات والمعارض.


شركات الطيران والفنادق تواكب التحول


أدركت شركات السفر والسياحة أن توجه “السفر المزدوج” لم يعد مجرد نمط مؤقت، بل تحوّل في سلوك المسافرين يستحق مواكبته بخدمات جديدة.


فشركات الطيران الكبرى، مثل دلتا إير لاينز ولوفتهانزا، بدأت بتقديم خيارات مرنة للمسافرين تجمع بين متطلبات العمل والرغبة في الاستكشاف، منها تذاكر قابلة للتعديل بدون رسوم إضافية لتغيير موعد العودة، بالإضافة إلى السماح بفترة توقف أطول في المدن المحورية (stopovers) بهدف تشجيع المسافر على الاستمتاع بالمحطة قبل وجهته النهائية.


أما في قطاع الضيافة، فقد أطلقت سلاسل فنادق عالمية مثل ماريوت وهيلتون برامج مخصصة للمسافرين بغرض “العمل + الترفيه”، من بينها باقات إقامة طويلة تشمل خصومات على خدمات السبا، وتذاكر دخول إلى المتاحف أو مناطق الجذب السياحي القريبة.


كما وفرت بعض الفنادق غرفًا مزودة بمكاتب عمل مجهزة ومساحات مشتركة للاجتماعات الصغيرة، إلى جانب تطبيقات مخصصة تسمح بحجز أنشطة ترفيهية بشكل مباشر وأنت جالس في الفندق.

ومن جهتها، شرعت شركات إدارة السفر مثل ترافيل بيرك ونافان بطرح أدوات رقمية تساعد الشركات على إدارة حجوزات السفر المدمجة ومتابعة نفقات الموظفين، بما يضمن كفاءة العمل دون إغفال الجانب الترفيهي الذي بات جزءًا من تجربة السفر الحديثة.


ومن المرجح أن تتبنى الدول والوجهات السياحية هذا التوجه بوصفه أداة لتحفيز الاقتصاد السياحي بعيدًا عن الموسمية التقليدية.


فبلدان مثل سنغافورة وألمانيا بدأت تطور حملات تسويقية مخصصة لاستقطاب المسافرين من فئة الأعمال، وتقديم مزايا ترفيهية لهم خلال فترات التوقف أو بعد الاجتماعات.


.في زمنٍ أصبحت فيه الحدود بين المكتب والمنزل، والجدول المهني والإجازة الشخصية، أكثر ضبابية من أي وقت مضى، لم يعد السفر مجرّد وسيلة للإنجاز، بل صار تجربة أكثر اتساعًا، تحتضن العمل والراحة معًا.


فالموظف الذي كان يسافر ليؤدي مهمة، أصبح لديه فرصة لصناعة ذكرى رائعة تدوم معه، وباتت المدن تهيّئ لأولئك الراغبين في الاستمتاع بعد نهاية جدول أعمالهم بتجارب محلية أصيلة من جولات طعام الشارع إلى زيارات المتاحف والمعارض، واستكشاف معالم المدينة.


في النهاية، قد لا يكون “السفر المزدوج” بديلاً عن الإجازة التقليدية، لكنه بلا شك، إعادة تعريف لها بتكلفة أقل، وتخطيط أكثر مرونة، وتحقيق الهدف الوظيفي مع الحصول على راحة وتحفيز لمواصلة المهام.


وفي عالمٍ يمضي بسرعة، ربما يكون أفضل ما يمكننا فعله هو أن نختار التوقف قليلًا، حتى وسط الزحام، لننعم برحلة لا يحدها توقيت المهمة الوظيفية التالية.


المصادر: أرقام- شركة تورزيم إكونوميكس- شركة نافان- شركة ترافل بيرك- ديلويت- صحيفة نيويورك بوست

للمزيد من المقالات

اضغط هنا

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *