بعد أقل من أربعة أشهر يُكمل الصراع في منطقة الشرق الأوسط عامه الثاني، حيث انطلق بهجمة من حماس في السابع من أكتوبر، وتمدد ليشمل لبنان واليمن وصولاً إلى إيران، والاستهدافات الأمريكية الأخيرة لمنشآتها النووية.
ولعل التفاصيل اليومية للأحداث وما يرافقها من تحليلات طويلة على شاشات التلفزة، أغرقت الموضوع بسيل من التحليلات الدقيقة منها، ومنها كذلك الخاضعة للخيال العلمي أو الأمنيات الشخصية تجاه طرف أو آخر، وأعتقد أن التحليل السياسي يستلزم العودة خطوة للوراء والنظر حول الآثار الاستراتيجية لهذا الصراع.
ولعلنا ننظر إلى الآثار المترتبة على إسرائيل في ثلاثة مستويات خاصة على المستوى المتوسط والبعيد، فبالنظر إلى سمعة ومصداقية إسرائيل في أمريكا والغرب عامة، كمستوى أول له تفريعات ثلاثة، هي السمعة في الإعلام، وفي الجامعات، وفي الرأي العام بالمجمل. نجد أن الإعلام الغربي تعاطف مع إسرائيل كثيراً بعد السابع من أكتوبر وتعرّضها للهجوم وأسر عدد من مواطنيها.
لكن مع تزايد الجرائم الإنسانية في القطاع تحولت دفة التغطية لتركز أكثر على الدمار والأزمة الإنسانية في غزة (كما تشير تقارير الأمم المتحدة UN ولجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا UNESCWA).
وتزايدت تساؤلات وسائل الإعلام الغربية حول الأهداف العسكرية الإسرائيلية، وطريقة تعاملها مع المساعدات، خاصة بعد وأد الأونروا وتحويل المساعدات لسلاح تجويع، مما أدى في كثير من الأحيان إلى عناوين رئيسية وافتتاحيات أكثر انتقاداً بدءاً من أواخر عام 2023 وطوال عام 2024.
وعلى مستوى الرأي العام تشير استطلاعات رأي متعددة ذات مصداقية (مثل غالوب، ويوغوف، وبيو) إلى تراجع ملحوظ في شعبية إسرائيل في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية، خاصة بين الشباب بالرغم من التعاطف الشعبي نحو إسرائيل في بداية الصراع، ولعبت الصور والتقارير عن معاناة المدنيين في غزة، دوراً كبيراً في تآكل الدعم وازدياد وتيرة الاحتجاجات.
وصولاً إلى عام 2024، حيث اجتذبت المظاهرات الداعمة للفلسطينيين حشوداً غفيرة في العواصم الغربية، مما يشير إلى تحول كبير في الرأي العام مقارنة بالصراعات السابقة.
هذا الأمر امتد للمحور الثالث لسمعة تل أبيب، وذلك على أرض الجامعات التي شهدت مظاهرات خاصة في الولايات المتحدة وبريطانيا، وشهدنا نشاطاً طلابياً ومن أعضاء هيئة تدريس للمطالبة بسحب الاستثمارات من الشركات المرتبطة بإسرائيل، وإدانة علنية للسياسات الإسرائيلية.
وكان لافتاً إصدار العديد من إدارات الجامعات بيانات أكثر توازناً مقارنةً بالصراعات السابقة، التي كانت تختزل بإجراءات تأديبية قاسية، وهو ما يعكس البيئة الاستقطابية والنقاش الواسع حول حرية التعبير.
المستوى الثاني المهم بعد سمعة إسرائيل خاصة في الغرب، هو مدى الاقتناع العالمي بالسردية الفلسطينية مقارنة بالإسرائيلية، خاصة على مستوى حل الدولتين التي تمسكت به المملكة مساراً أوحد للسلام، عبر مبادرات عدة من مؤتمر فاس في 83 وصولاً إلى المبادرة العربية في 2002 خلال قمة بيروت.
ولعل أهم المنجزات في هذا الملف تحت دوي المدافع، هو ارتفاع عدد الدول التي تعترف بفلسطين منذ بدء الحرب على غزة في 7 أكتوبر 2023، ومنها النرويج وإسبانيا وأيرلندا التي اعترفت بفلسطين في عام 2024، ليرتفع العدد من 138 دولة (في نوفمبر 2023) إلى 147 دولة اليوم، مما يعني أن 9 دول إضافية اعترفت بفلسطين بعد بدء الحرب الأخيرة.
يضاف إلى ذلك التلميحات الفرنسية والبريطانية حول ذلك، والمساعي الدبلوماسية السعودية والدولية المكثفة ومنها مؤتمر حل الدولتين الذي كان مجدولاً في 17 من الشهر الجاري في نيويورك، بقيادة فرنسية سعودية وأرجئ تبعاً للأحداث الجارية، وسيسعى بطبيعة الحال لزيادة عدد الدول التي تعترف بحل الدولتين.
ونختم بالأثر الإستراتيجي الثالث على إسرائيل جرّاء صراع العامين، المرتبط بالهجرة من وإلى إسرائيل حيث أشارت صحيفة «تايمز أوف إسرائيل» أن عدد الإسرائيليين العائدين من الخارج انخفض بنسبة 21% بين أكتوبر 2023 ومارس 2024 (8,900 عادوا، مقارنةً بـ 11,200 في العام الذي سبقه).
ووصفت صحيفة «جيروزاليم بوست» هذا الرقم بأنه «هجرة قياسية»، مشيرةً إلى أن 40,600 شخص غادروا إسرائيل خلال العام، وهو رقم غير مسبوق في تاريخ البلاد.
وبتحليل الأرقام أكثر بالنظر إلى الفئات العمرية والمستوى التعليمي للمهاجرين من تل أبيب نجد أن الأعمار راوحت بين حوالى 40% من المهاجرين بين 20 و39 عاماً، وحوالى 28% تراوح أعمارهم بين 40 و69 عاماً، كما يبلغ متوسط عمر المهاجر الإسرائيلي حوالى 30 عاماً.
بالإضافة إلى ذلك، يميل المهاجرون من إسرائيل إلى الحصول على مستويات تعليمية أعلى، حيث حصل حوالى 60% منهم على شهادات جامعية، ويحمل حوالى 25% منهم جنسية مزدوجة.
قد تكون نار الفرن مشتعلة والبارود يزكم الأنوف والدخان يثير ضباباً أمام العيون، لكن هذا لا يعني أن الطير لم يأكل من خبزك.
أخبار ذات صلة
التعليقات