التخطي إلى المحتوى

في عالم الاقتصاد الحديث، تشبه صناعة اللوجستيات الشرايين التي تضخ الحياة في جسد التجارة العالمية. تلك الشرايين التي لا ترى بالعين المجردة، لكنها تحمل في طياتها الأمل والفرص والإمكانات. إنها العمود الفقري الذي يدعم الاقتصاد، والقوة الخفية التي تسهل حركة البضائع والخدمات بين الأسواق، وتنقل الأحلام والآمال من مكان الخيال و الأفكار إلى أرض الواقع والازدهار .

العدسة الثاقبة لرؤية 2030 التقطت القوة الكامنة لهذا القطاع المدهش بكل مقوماته الاقتصادية والاجتماعية والتنموية، وقررت أن يكون أحد أهم الأهداف الاستراتيجية لهذه الرؤية. منذ ذلك الحين قطع السعوديون شوطاً مميزاً حتى الآن في رسم الخطط وتنفيذ جزء رائع من خارطة الطريق.

ضمن استهداف السعودية أن تكون مركزاً لوجستياً عالمياً، تم إطلاق الخطة الوطنية للنقل والخدمات اللوجستية في قلب هذه الرؤية، وهي تهدف إلى تعزيز البنية التحتية للنقل، وتطوير الموانئ والمطارات، وتوسيع شبكة السكك الحديدية. وكذلك تستهدف رفع مساهمة القطاع اللوجستي في الناتج المحلي الإجمالي من 6% إلى 10% بحلول عام 2030.

السعودية تبدو جادة في برنامجها اللوجستي أكثر من أي وقت مضى، وعليه فهي تخطط لإنشاء 59 مركزاً لوجستياً بحلول عام 2030، تمتد على مساحة تتجاوز 100 مليون متر مربع. هذه المراكز ستكون نقاط نور تضيء خارطة دروب التجارة وتسرع من كفاءة تصدير المنتجات السعودية. فوق هذا، ستنجز الجسر البري الذهبي الذي يعد درة التاج في المشاريع اللوجستية السعودية ويربط ثلاثة مطارات مع 14 منطقة لوجستية، منها خمسة موانئ جافة غير الموانئ القائمة. هذا المشروع كما يذكر صالح الجاسر يحظى بمتابعة دقيقة واهتمام بالغ من لدن الأمير محمد بن سلمان شخصياً لما يلمسه من بعد استراتيجي مذهل لهذا المشروع .

وضمن التنوع الاستراتيجي سيأخد ميناء رأس الخير بعداً رائعاً كمحطة صناعة السفن، وسيحل ميناء مدينة الملك عبدالله الاقتصادية كأكبر موانئ البحر الأحمر والمنطقة وسيتفرغ ميناء ينبع لأغراض الصيانه المؤقته وكمحطة توقف نشطة على سواحل البحر الأحمر للسفن و النقل البحري.

ويشرق برنامج NIDLP الذي ليس مجرد مبادرة، بل مقترح عبقري أطلقه الأمير محمد بن سلمان يهدف إلى تحويل السعودية إلى لاعب رئيس على مستوى العالم في قطاعات الطاقة والتعدين والصناعة والخدمات اللوجستية، وعليه تم إطلاق برنامج تطوير الصناعة الوطنية والخدمات اللوجستية عام 2019. هذا البرنامج هو الجسر الذي يعبر بالمملكة نحو جذب الاستثمارات الأجنبية وتحقيق النمو الاقتصادي المستدام ودمج الموارد والجهود نحو تكامل أفقي وعامودي مدهش في القطاعات المستهدفة.

بفضل هذه المبادرات والمشاريع الكبيرة، يُتوقع أن يوفر قطاع اللوجستيات في السعودية حوالي 200,000 فرصة عمل مباشرة وغير مباشرة بحلول عام 2030، وبهذا يفتح آفاقاً جديدة للأجيال القادمة ويعزز من كفاءة سلاسل الإمداد بشكل واضح وفعال.

لكن الطريق ليس مفروشاً بالورود..! تواجه صناعة اللوجستيات تحديات عديدة، وأهمها بلا جدال: البنية التحتية. ستظل الحاجة المستمرة لتحديث وتوسيع شبكات النقل والموانئ قائمة، كما أن الكفاءة التشغيلية تمثل تحدياً آخر، وستظل الحاجة لتحسين الكفاءة واعتماد تقنيات حديثة مثل الأتمتة والذكاء الاصطناعي ملحة لتحقيق الطموحات. أيضاً، سيظل تحديث القوانين واللوائح وتحسين الإطار التنظيمي وتبسيط الإجراءات لضمان سلاسة العمليات مطلباً ملحاً لازدهار هذه الصناعة. آخر التحديات الملموسة هو التمويل. نعم، التمويل، فالمشاريع اللوجستية رغم مردودها الرائع المباشر وغير المباشر، تتطلب استثمارات ضخمة جداً. على سبيل المثال، الجسر البري وحده بحاجة إلى 120 مليار ريال. وهنا يكمن تكامل الأجهزة التنظيمية بتهيئة المناخ للاستثمارات الأجنبية وكذلك المحلية ومنح الحوافز مقابل المزايا والمردود.

لا شيء أجمل من الحلم إلا تحقيقه، والسعوديون يعملون بجهد وتركيز عاليين لتحقيق حلمهم أن يكونوا ضمن قادة الصناعة اللوجستية عالمياً، وإن غداً لناظره قريب..

* مصرفي واقتصادي سعودي

أخبار ذات صلة

 

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *