التخطي إلى المحتوى

دائمًا ما يتداخل الاقتصاد والسياسة سويًا، حتى أن كثيرًا من المؤسسات الأكاديمية تقوم بتدريس علومهما معًا، فالكثير من دوافع التحركات السياسية تكون مدفوعة بأسباب اقتصادية، كما يتأثر الاقتصاد بالتوجهات السياسية للأحزاب والقادة والهيئات الحاكمة.

 

ودائمُا ما يكون للأحداث السياسية الكبيرة تأثيراتها العميقة على الاقتصاد بشكل عام، وعلى الاستثمار بشكل خاص، حيث تؤدي لانتقالات رؤوس الأموال من دولة لأخرى ومن قطاع لآخر وإلى تقلبات في سوق الأسهم صعودًا وهبوطًا.

 

 

تهديدات عسكرية

 

ولعل أزمة الصواريخ الكوبية في عام 1962 تعد أحد الأمثلة اللافتة للغاية للتأثير المتباين للأحداث السياسية على أسواق الأسهم، وتأثير درجة إتاحة المعلومات على تحركات الأسواق.

 

للاطلاع على المزيد من المواضيع والتقارير في صفحة مختارات أرقام

 

فالأزمة التي بدأت في 14 أكتوبر بعد علم الحكومة الأمريكية بنشر نظيرتها السوفيتية لصواريخ نووية في جارتها كوبا، وإعلان واشنطن عن حصار بحري على كوبا، تسببت في هبوط مؤشر “داو جونز” بنسبة 1.2% خلال اليوم نفسه، وخلال الأسبوعين التاليين وحتى تاريخ 28 أكتوبر انخفضت الأسواق بنسبة 0.5% إضافية.

 

يأتي هذا على الرغم من أن هذه الأزمة هددت، ولأول مرة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، باندلاع مواجهة نووية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، في ظل تهديد القوى الشيوعية لواشنطن بالصواريخ من كوبا، وتهديد واشنطن لموسكو بصواريخها المنتشرة في تركيا، ومع تهديد بهذا الحجم كان منطقيًا أن يكون انخفاض الأسواق أشد حدة بكثير.

 

ويمكن القول أن العامل الفاصل هنا كان مدى المعرفة العامة بتفاصيل التهديدات بين القوتين العظميين -وقتها- للجمهور العام، حيث كانت التفاصيل غير متاحة إبان الأزمة للجميع، واللافت هنا أنه مع إقرار اتفاق بسحب كل طرف لأسلحته النووية وعدم غزو أمريكا، ارتفعت الأسواق بنسبة 4.5% خلال 4 أسابيع فحسب.

 

ويشير الارتفاع الكبير، والذي يفوق ما يتجاوز ضعف نسبة الانخفاض، إلى ظاهرة كثيرًا ما تتكرر مع الاهتزازات التي تحدث بسبب الاضطرابات أو التحولات السياسية، وهي ظهور منحنى صاعد قياسي يسترد الخسائر السابقة ويتفوق عليها، بما يجعل انقشاع الاضطرابات السياسية إحدى أبرز نقاط الشراء المحببة للمتعاملين في الأسواق، لأنه يعقبها ارتفاع ملحوظ.

 

 

نتيجة انتخابات مفاجئة

 

ومن ذلك وصول الرئيس الأميركي “دونالد ترامب” المفاجئ إلى السلطة في 2016، رغم كل استطلاعات الرأي التي أشارت إلى فوز منافسته الديمقراطية “هيلاري كلينتون” حيث تسبب في انخفاض العقود الآجلة لمؤشر “ستاندرد أند بورز” بنسبة 5% خلال ساعات الليل فحسب، بسبب غياب الرؤية حول سياساته الاقتصادية، فضلا عن عدم وجود أي خبرة سياسية سابقة، بما فرض حالة من عدم اليقين الاقتصادي والجيوسياسي.

 

ولكن ترامب كان حريصُا على تهدئة أثر زلزال فوزه بالرئاسة بشكل سريع، وفي صباح اليوم التالي، ألقى خطابًا تصالحيًا غير متوقع، قياسًا بلهجته المتحدية التقليدية، حيث تحدث عن توحيد البلاد والاستثمار في البنية التحتية، وساهم هذا الخطاب، إلى جانب توقعات بخفض الضرائب وتخفيف القيود التنظيمية، في طمأنة الأسواق بل وغيّر “المزاج العام” لها من التشاؤم إلى التفاؤل.

 

ولذلك بدأ ما يُعرف لاحقًا بـ”سباق ترامب” -أو رالي ترامب- وهي موجة صعود قوية للأسواق استمرت لأشهر، إذ ارتفع مؤشر “داو جونز” حوالي 18,300 نقطة عشية الانتخابات إلى أكثر من 21,000 نقطة بحلول مارس 2017، أي بنسبة تجاوزت 20% خلال أقل من خمسة أشهر، أما مؤشر “ستاندرد أند بورز 500” فقد سجل مكاسب تجاوزت 15% خلال نفس الفترة.

 

واختلفت القطاعات التي استفادت بشكل خاص من فوز ترامب وكان أبرزها القطاع المالي حيث ارتفعت أسهم البنوك مثل “جي.بي.مورغان” و”جولدمان ساكس” بأكثر من 30%  خلال عام من نتيجة الانتخابات، مدفوعة بتوقعات رفع أسعار الفائدة وتخفيف القيود التنظيمية، كما شهدت شركات الصناعات الثقيلة ارتفاعات قوية بفضل وعود ترامب بزيادة الإنفاق على البنية التحتية، حيث ارتفعت أسهم شركة مثل “كاتربيلر” بنسبة 32% خلال عام من نتيجة الانتخابات.

 

وارتفعت أيضا أسعار أسهم شركات الطاقة ولكن بنسب أقل مع توقعات بتوسيع عمليات التنقيب وتقليص القيود البيئية (وهو ما دفع كثيرين للاستثمار في قطاع الطاقة في أمريكا مع فوز ترامب بالرئاسة مرة ثانية في نوفمبر 2025 مع توقعات بتخفيف أجندة بايدن البيئية).

 

في المقابل، واجهت بعض القطاعات ضغوطًا، مثل شركات التكنولوجيا التي تخوفت من سياسات الهجرة الجديدة، وشركات الرعاية الصحية التي تأثرت بمساعي إلغاء قانون “أوباما كير”.

 

لكن الأهم من كل ذلك، أن الأسواق لم تكن تتفاعل فقط مع ترامب كشخص، بل مع التحول السياسي الكامل الذي مثّله فوزه: سيطرة الجمهوريين على البيت الأبيض والكونغرس، مما فتح الباب أمام إصلاحات اقتصادية واسعة النطاق، وفي وقت لاحق ازدادت الاضطرابات السياسية وتأثيراتها الاقتصادية فيما شكّلت الأشهر الأولى من ولاية “ترامب” واحدة من أسرع فترات الصعود في تاريخ الأسواق الأمريكية، لا سيما بعد تطور سياسي وليس بعد انتهاء أزمة اقتصادية.

 

 

اضطرابات سياسية

 

في صيف عام 2019، تحولت هونغ كونغ، إلى ساحة احتجاجات صاخبة هزت ثقة المستثمرين وأربكت الأسواق العالمية، بدأت الأزمة باحتجاجات ضد مشروع قانون يسمح بتسليم المطلوبين إلى الصين، لكنها سرعان ما تطورت إلى حركة جماهيرية تطالب بالديمقراطية وتقاوم ما اعتبره المتظاهرون تغولًا متزايدًا من بكين على الحكم الذاتي للمدينة.

 

مع تصاعد التوترات في الشوارع، بدأت الأسواق في التراجع. مؤشر “هانج سينج”، مؤشر الأسهم الرئيسي في هونغ كونغ، خسر أكثر من 12% من قيمته بين يوليو وأغسطس 2019. وفي غضون أسابيع، تلاشت أكثر من 622 مليار دولار أمريكي من القيمة السوقية للأسهم المدرجة في البورصة.

 

شركات النقل كانت من بين الأكثر تضررًا، شركة “كاثي هيفن”، الناقل الوطني، اضطرت لإلغاء مئات الرحلات بعد أن أغلق المتظاهرون مطار هونغ كونغ الدولي، أحد أكثر المطارات ازدحامًا في العالم. أسهم الشركة تراجعت بأكثر من 20%، وسط ضغوط من بكين على إدارتها بسبب دعم بعض موظفيها للاحتجاجات.

 

ورأت “بلومبرج” أن ما حدث عام 2019 لم تكن أزمة هونغ كونغ مجرد اضطراب سياسي، بل كانت اختبارًا حقيقيًا لقدرة المدينة على الحفاظ على مكانتها كمركز مالي عالمي في ظل ضغوط متزايدة من الداخل والخارج، ولذلك فبينما هدأت الاحتجاجات لاحقًا، فإن آثارها الاقتصادية ظلت حاضرة لسنوات، ومعها التقلبات في أسواق المال حتى الآن.

 

 

محاولات القياس

 

وهناك العديد من المحاولات لتحويل تأثير السياسة على الاستثمار بشكل عام لمقياس كمي يسهل قياسه، غير أن أبرز تلك المحاولات هو مؤشر المخاطر الجيوسياسية (GPR) وهو يقيس حجم المخاطر من خلال إحصاء المقالات الإخبارية اليومية التي تتناول الحروب والإرهاب والتوترات السياسية في أبرز عشر صحف أمريكية وبريطانية، مثل نيويورك تايمز، وواشنطن بوست، وول ستريت جورنال، وفاينانشال تايمز.

 

يُصدر هذا المؤشر باحثو جامعة هارفارد، وهو متاح للعامة للمحللين منذ عام 1985، ويجب مراقبته قبل اندلاع الصراع وخلاله وبعده، وذلك لرصد التغيرات في مستويات المخاطر الجيوسياسية.

 

ويشير ارتفاع معدل تكرار هذه المقالات إلى ارتفاع مستوى عدم اليقين الجيوسياسي المُتصور بمرور الوقت، على سبيل المثال، تؤدي زيادة قدرها 100 نقطة في مؤشر المخاطر الجيوسياسية إلى زيادة عائد أصل مثل الذهب بنحو 2.5٪، وانخفاض بنسب أقل في الأسهم.

 

والشاهد هنا أن ارتفاع الأسهم بعد استقرار الأوضاع في غالبية حالات الاضطرابات السياسية غالبًا ما يكون سريًعًا للغاية ويفوق نسبة الانخفاض بما يجعلها نقطة سانحة للغاية للشراء.

 

ولكن تكمن الأزمة مع كافة تلك التطورات السياسية في إنه كثيرًا ما يصعب التكهن بها، والكثير منها يظهر بشكل مفاجئ تماما، ولكن هناك معايير يمكن الاستناد إليها في تقييم أثر التقلبات السياسية على الأسواق بشكل كبير، وأهمها مدى استقرار النظام السياسي والاقتصادي المعتاد  للدولة، وحجم التغير الحادث، فضلًا عن عدد الأطراف المؤثرة سياسيًا واتجاه كل منها.

 

المصادر: أرقام- نيويورك تايمز- وول ستريت جورنال- فورين بوليسي- بلومبرج

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *