التخطي إلى المحتوى

– في نوفمبر 1963، ألقى الاقتصادي البارز جيمس “بوكانان”خطابًا شهيرًا خلال الاجتماع الثالث والثلاثين للرابطة الاقتصادية الجنوبية بعنوان “ما الذي ينبغي على خبراء الاقتصاد فعله؟”.

 

– وقد نُشر هذا الخطاب لاحقًا في يناير 1964، وأصبح علامة فارقة في فكر بوكانان، إذ قدم فيه رؤيته المتميزة لدور علم الاقتصاد، محددًا معالم جديدة لما ينبغي أن يكون عليه هذا العلم.

 

مفهوم الاقتصاد عند “بوكانان”: من الاختيار إلى التبادل

 

 

– رفض “بوكانان” تعريف الاقتصاد باعتباره علم يعنى فقط بـ “تخصيص الموارد”، معتبرًا أن هذه النظرة تُبسط دور الاقتصاد وتجعله مشابهًا لعلوم أخرى تدرس السلوك البشري.

 

للاطلاع على المزيد من المواضيع والتقارير في صفحة مختارات أرقام

 

– وبدلاً من ذلك، أكد “بوكانان”أن الاقتصاد يجب أن يتمحور حول “التبادل”، مشددًا على أنه علم يعنى بفهم التفاعلات التحفيزية بين الأفراد، وليس مجرد تحليل خيارات فردية بمعزل عن السياق الاجتماعي.

 

انتقادات “بوكانان”لتقاليد الاقتصاد النمطية

 

– وجه “بوكانان”نقدًا لاذعًا للتقاليد التي أرساها الاقتصادي ليونيل روبنز، الذي عرّف الاقتصاد بأنه علم للاختيار العقلاني.

 

– واعتبر “بوكانان”أن هذا التعريف يقيد التقدم العلمي ويحول الاقتصاد إلى ممارسة تقنية تفتقر إلى العمق الاجتماعي.

 

– كما انتقد فكرة أن الأفراد “يعرفون دائمًا ما يريدون”، معتبرًا أن هذا الافتراض يحول الاقتصاد إلى مجال ميكانيكي يمكن أن تستنسخه الآلات بسهولة.

 

– ووفقًا له، يجعل هذا النهج الاقتصاد أقرب إلى الرياضيات التطبيقية أو العلوم الإدارية، مما يبعده عن جوهره باعتباره علم اجتماعي.

 

رؤية “بوكانان”للاقتصاد: التركيز على المؤسسات والتفاعل البشري

 

 

– بدلاً من التركيز على تحليل الاختيارات الفردية، دعا “بوكانان”الاقتصاديين إلى دراسة كيفية تنظيم الأفراد لأنفسهم جماعيًا لمواجهة المشكلات التي لا يمكن حلها بشكل فردي.

 

– أبرز “بوكانان”أهمية دراسة كيفية تنظيم الأفراد لأنفسهم جماعيًا لمواجهة المشكلات المشتركة في كتابه الشهير “حساب الموافقة” ” The Calculus of Consent” الذي ألفه مع جوردون تولوك.

 

– حيث يحاول الكتاب فهم كيف يختار الأفراد القواعد الدستورية التي تحكم عملية صنع القرار الجماعي، وكيف يؤثر ذلك على كفاءة وعدالة النتائج.

 

– ورأى أن تصميم المؤسسات وصياغة القواعد التي تسهم في تحقيق التعاون الجماعي يجب أن تكون من أولويات الاقتصاديين.

 

– قدم “بوكانان”مفهوم “التكافل” لوصف الاقتصاد كعلم يعنى بالعلاقات التعاونية بين الأفراد. وشدد على أن التعاون ليس خيارًا فرديًا فحسب، بل هو ضرورة لتنظيم المجتمع وحل مشكلاته المشتركة.

 

“بوكانان”وتأثيره على علم الاقتصاد

 

 

– يُعتبر “بوكانان”من أبرز من أعادوا صياغة دور الاقتصاد ليكون علمًا يعزز فهمنا للتفاعلات البشرية في سياق التبادل والمؤسسات، مما يجعل عمله ذا أهمية كبيرة في مجالات مثل الاقتصاد السياسي ونظرية الاختيار العام.

 

– ومع تصاعد الاهتمام بالقضايا المؤسسية مثل الحوكمة، والسياسات العامة، وصنع القرار الجماعي، أصبحت أفكار “بوكانان”أكثر تأثيرًا.

 

– فقد أثبتت نظرية الاختيار العام، التي طورها مع جوردون تولوك، أهميتها في تحليل السياسة الاقتصادية، حيث كشفت عن ديناميكيات اتخاذ القرارات في الحكومات والمؤسسات وكيف يمكن أن تؤدي المصالح الفردية إلى نتائج جماعية غير متوقعة.

 

– كما أن تركيز “بوكانان”على تصميم المؤسسات يلهم الاقتصاديين والمفكرين اليوم للعمل على بناء أنظمة تُشجع التعاون بين الأفراد وتحفز الابتكار لحل المشكلات المشتركة، بدلاً من الاعتماد فقط على تحليل الكفاءة الاقتصادية في تخصيص الموارد.

 

التفاؤل والتحديات في رؤية بوكانان

 

– كان “بوكانان”متفائلًا بإمكانية الأفراد على التوصل إلى حلول مشتركة حتى في مواجهة الفشل. فقد رأى أن فشل الترتيبات الاقتصادية ليس نهاية المطاف، بل هو خطوة تدفع الأفراد للبحث عن ترتيبات أفضل، سواء على المستوى الخاص أو من خلال اتفاقيات جماعية ودستورية.

 

– ومع ذلك، أدرك “بوكانان”أن التعاون قد لا يكون دائمًا ممكنًا، لكنه أكد أن الأفراد سيظلون في سعي دائم لإيجاد حلول تنظيمية لتحقيق أهدافهم المشتركة.

 

– يضع هذا النهج التفاؤلي “بوكانان”في مواجهة مباشرة مع النظريات التي تركز على “فشل السوق” كحالة نهائية. فبالنسبة له، السوق ليس كيانًا جامدًا، بل نظامًا مرنًا ومبتكرًا يسمح للأفراد بإعادة ابتكار طرق التعاون.

 

– يعكس هذا الإيمان بقدرة الأفراد على التكيف والتطور رؤية عميقة للطبيعة البشرية، التي وصفها “بوكانان”بأنها عقلانية، لكنها تتسم أيضًا بالإبداع والقدرة على التفاوض.

 

تطور رؤية “بوكانان”للاقتصاد

 

– لم تكن رؤية “بوكانان”جامدة، بل تطورت مع الوقت. ففي مقالة لاحقة عام 1966 بعنوان “علم الاقتصاد والتكامل المعرفي مع العلوم الأخرى”، حاول التوفيق بين مفهومي الاختيار والتبادل.

 

– معتبرًا أن الاقتصاد يمكن أن يُفهم كعلم للاختيار في بُعده الفردي، وكعلم للتبادل في بُعده الاجتماعي. وقد ساعدته هذه الرؤية المزدوجة على تقديم تعريف أكثر شمولًا للاقتصاد، يجمع بين المنطق الفردي والتفاعلات الاجتماعية.

 

– ولعل إحدى النقاط البارزة في فكر “بوكانان”هي إدراكه أن الاقتصاد ليس علمًا منعزلًا، بل يتداخل مع تخصصات أخرى، مثل الاجتماع والسياسة والفلسفة.

 

– تعزز هذه التداخلات، من وجهة نظره، فهمنا للتعاون الإنساني، الذي يشكل جوهر العلاقات الاقتصادية.

 

ختامًا: إرث “بوكانان”الفكري

 

– لقد أعاد جيمس “بوكانان”تعريف الاقتصاد باعتباره علم للتعاون الإنساني، مشددًا على أهمية المؤسسات والتفاعل البشري في تحقيق التكافل والتنمية.

 

– يمثل إرثه الفكري دعوة للاقتصاديين للتركيز على بناء مجتمع أكثر تعاونًا وعدلاً، حيث يصبح الاقتصاد أداة لفهم وتطوير العلاقات الإنسانية، وليس مجرد آلية لتخصيص الموارد.

 

المصدر: إيكوليب

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *